مناجاة القلب
Jan 24
بقلم: أكوس سوسيلو بن كارمادي
[
إلى رفيقة دربي — التى ما زالتْ في ضمير الغيب — أبعث هذه الرسالة ]
الحبّ فطرة إلهية فطرها اللهُ على بني آدم ، فلا يستطيع أحد أن يدفع عن
قلبه سلطان الحبّ و هيمنته إذا نزل مستقرّاً في عرش قلبه . فهو الملك الجبّار الذى
فرّض على رعيّته (نفس المحبّ) مرارة الكتمان بما يكتنفها من الدموع والشوق معاً.
وما أنا إلا شابٌ — في ريعان شبابه — الذى اضطُرّ إلى تجرّع كأس الحبّ
مع مرارته وسكرته . والله لو قدرتُ أن أمحو هذه العاطفة الملتهبة من قلبي لفعلتُ !
ولكن لا سبيل إلى ذلك... وإنما هو بلاء بُليتُ به لحين قد أتيح لي . فكلّ ما في وسعي
أن أكتّم لوعة الحبّ وأوجاعه في قرارة نفسي من غير الافتضاح إلى أحد رفاقي و أقربائي
، ثمّ أستودعه الله لرعاية هذا الحبّ الطاهر حتّى تنفتحَ زهورُه زاهية وتبدوَ ثمراتُه
يانعة في الجنّة العُلويّة.
***
لقد حاولتُ أن أخفي عن الناس سريرة قلبي ، وأن أحجب عنهم جبروت هذا السلطان القاهر
الذي يتحكم في قلبي من غير رحمة ، ولكن هذه الطاقة لم تدم طويلا... ذلك لأن سلطان الحبّ
لم يكن يوما ما ليجلس فوق عرش القلوب وراء السُتُر المرخاة والحُجُب المسدلة . فمهما
طال وقت اختفائه عن الأنظار والأسماع ، فلا بدّ أخيراً أن يهتك كلّ ما يحيط به من حُجُب
، ولا بدّ أن يظهر أمام الناس في جبروته القوي ، وسلطانه القاهر ، ولا بدّ أخيراً أن
يعلن عن نفسه وعن شوكته سواء رضي الناسُ أم
غضبوا...
فسامحيني على هذه الجرأة والإقدام يا نور فؤادي ! الحبّ قد أعتق لساني
فتكلمتُ ، وفتح حنجرتي فشكوتُ . والآن... لِندَع القلم يخطّ على هذه الصفحات البيضاء
معلناً عن سرّ مكتوم في صدري.
***
عزيزتي...، إنّ بذور الحبّ بيننا قد وُجدتْ مند أول عهد صداقتنا ، وسرعان
ما ترعرعتْ في بُقعة خِصبة — من بقاع الله المباركة — تسكبها قطرات الندى من علياء
السماء . غير أنّ أحداً منّا لم يجرؤ أن يكاشف صاحبه بما أضمره له في نفسه من مشاعر
الحبّ ؛ الحبّ الصادق الخالص الذي يتسامى على الاعتبارات الجسدية و يتعالى فوق الأوهام
المادّية . لأنّ الحبّ لا يفرّق بين الأمير والحقير ، السادة والعبيد ، الغني والفقير
، فالحبّ هبة إلهية على جميع خلقه.
فأرجوكِ ألاّ تظنّي بي السوء ، لأنّي ما فعلتُ ذلك كله خوفاً من أقوال
الناس ولوم اللائمين بل من أجل سعادتنا . أريد أن أجعل رحلة الحبّ تبدأ داخل الحياة
الزوجية ، لا خارجها كما فعلها كثير من الشباب والفتيات.
لأنّ الحبّ الذي بدأ خارج الحياة الزوجية يبدأ كبيراً ، ثمّ سرعان ما
اضمحلّ واختفى تحت الرمال المتراكمة تطمِسه أقدامُ الزمان ، فأصبح صغيراً بعد أن يشبع
كلّ من الزوجين بالرغبات الجنسية و يعرف الصفات السلبية من جانبين . أمّا الحبّ الذي
بدأ داخل الحياة الزوجية عن طريق الخطبة والتعرّف — كما علّمنا ديننا الإسلام — يبدأ
صغيراً ، ثمّ أخذ ينمو و يزداد يوما بعد يوم ، فأصبح كبيراً بطول المعاشرة الطيبة بين
الزوجين.
***
عزيزتي...، لقد تملكتْني الحيرةُ مند أسابيع قلائل و كابدتُ آلاماً غامضة
تشتدّ ولا تلين دون أن أعرف لها سبباً ولا مصدراً . فعلمتُ فيما بعد أنّ نار الشوق
قد التهبتْ في كياني ، تجعل من المستحيل إطفاءها. ثمّ أتضرّع وأسأل الله بلطفه وكرمه
لينقذني ممّا أنا فيه حتى أعود إلى رشدي . فاستجاب الله لدعائي إذ رأيت في المنام رؤياً
صادقةً :
"
عندما كنتُ ماشياً بين الحقول والبساتين والأودية في إحدى القرى بمدينة (لامونجان)
أتمتّع بجمال الطبيعة التي طالما أتشوّق إليها طوال أيام غربتي في (مصر) . وكانت تصحَبني
فتاةٌ من فتيات القرية اسمها (آنسة) ، نمرح ونتبادل الحديث عن المنظر الجميل الذي أبدعته
يد الخالق . فسألنا كلّ من لاقينا في الطريق من الأقارب وأهل القرية: هل هذه الفتاة
خطيبتكَ؟ فأجبتُهم بابتسامة مشرقة في شفتيّ.
انتهت الشمس إلى مغيبها فعُدْنا إلى البيت مغتبطَين مسرورَين . وما إن
وصلنا في عتبة الباب إذ لاح لي — أمام عينيّ — شبْحُ فتاةٍ مُلقاة بين ذراعَي أمّي
تبثّ آلامها وأحزانها . ومَعَ دنوّ خطواتي نحوها ، تبيّن لي أنّ هذه الفتاة إنما هي
أنتِ نفسكِ يا عزيزتي ..."
وشيئا فشيئا أخذ التفكير والتأمّل في هذه الرؤيا يُشغل ذهني . وفي نهاية
المطاف وصلتُ إلى النتيجة المقنعة هي: إنّ إرادة السماء قد اختارتكِ لتكوني رفيقة دربي
، وما تلك الرؤيا الصادقة التى رأيتُها في المنام إلاّ إيماءةً من عند الله.
فالحمد لله الذي منّ علينا نعمة الحبّ ، وغرس قصّتنا في بستان الخلود
. لقد صدق قول أمير البيان العربي ، مصطفى لطفي المنفلوطي:
"
إنّ الله قد خلق لكلّ روح من الأرواح روحا أخرى تماثلها وتقابلها...وتسعد بلقائها...وتشقى
بفراقها...ولكنه قدّر أن تضلّ كلّ روح عن أختها في الحياة الأولى ، فذلك شقاء الدنيا...وإن
تهتدي إليها في الحياة الثانية ، فتلك سعادة الآخرة "
القاهرة ، 19 ربيع الأول 1435 هـ
____________________
المفردات:
درب: طريق
تجرّع: شرب
ريعان: أول الشيئ وأفضله
افتضاح: انكشاف
زاهية: مشرقة
الستر: ج كلمة ستار
مسدلة: مرسلة ، مرخاة
يهتك: يمزّق
شوكة: كناية عن البأس والقوة
أعتق: حرّر
ترعرعت: نشأتْ
بقعة: مكان
تسكب: تصبّ
متراكمة: مجتمع بكثرة
تطمس:تُبيد ، تمحو
نمرح: نفرح
شبح: ما بدا لك شخصه غير جلي
دنوّ: قرب
إيماءة: إشارة